كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
محل الخلاف بين العلة في بيع نفس الأرض أمّا البناء فهو مملوك يجوز بيعه بلا خلاف أي: إذا لم يكن من أجزاء أرضها قيل: إن إسحاق الحنطيّ ناظر الشافعيّ رضي الله تعالى عنه بمكة في بيع دور مكة فاستدلّ الشافعي بما مرّ واستدلّ هو على المنع بقوله حدّثني بعض التابعين بأنها لا تباع فقال له الشافعيّ: لو قام غيرك مقامك لأمرت بفرك أذنيه، أقول لك: قال الله ورسوله تقول: حدّثني بعض التابعين وقال الرازي فقال إسحاق: فلما علمت أن الحجة لزمتني تركت قولي. وقرأ حفص {سواء} بالنصب على أنه ثاني مفعولي {جعلناه} أي: جعلناه مستويا العاكف فيه والباد، والباقون بالرفع على أن الجملة مفعول ثان لجعلنا، ويكون {للناس} حالًا من الهاء ويصح أن يكون حالًا من المستكنّ في للناس بجعله مفعولًا ثانيًّا لجعلنا وقرأ ورش وأبو عمرو {البادي} بإثبات الياء بعد الدال وصلًا لا وقفًا وأثبتها ابن كثير وقفًا ووصلًا وحذفها الباقون وقفًا ووصلًا {ومن يرد فيه} أي: المسجد الحرام {بإلحاد بظلم} أي: بميل إلى الظلم والإلحاد العدول عن القصد وأصله إلحادًا لحافر وقيل: الإلحاد فيه هو الشرك وعبادة غير الله، وقيل: هو كل شيء منهيّ عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم، وقيل: هو دخول الحرم بغير إحرام أو ارتكاب شيء من محظورات الإحرام من قتل صيد أو قطع شجر، وقال ابن عباس: هو أن تقتل فيه من لا يقتلك، أو تظلم فيه من لا يظلمك. وقال مجاهد: هو تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات. وقال سعيد بن جبير: احتكار الطعام بمكة بدليل ما روى يعلي بن أمية أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ احتكار الطعام في الحرم إلحاد» وعن عطاء قول الرجل في المبايعة لا والله بلى والله وعن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له فقال كنا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: لا والله وبلى والله.
تنبيه:
قوله: بإلحاد بظلم حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال: ومن يرد فيه مرادًا أمّا عادلًا عن القصد ظالمًا {نذقه من عذاب أليم} أي: مؤلم أي: بعضه وخبر إنّ محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، فكل من ارتكب فيه ذنبًا فهو كذلك فينبغي لمن كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهمّ به ويقصده.
ولما ذكر تعالى الفريقين وجزاء كل وختمه بذكر البيت أتبعه التذكير به فقال تعالى: {وإذ} أي: واذكر إذ {بوأنا لإبراهيم مكان البيت} أي: جعلنا له مكان البيت مبوّأ أي: مرجعًا يرجع إليه للعمارة والعبادة، فإنّ البيت رفع إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها يقال لها: الخجوج كشفت ما حوله فبناه على أسِّهِ القديم، وقيل: بعث الله تعالى له سحابة بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن علي دوري فبني عليه، وعن عطاء بن أبي رباح قال: لما أهبط الله آدم عليه السلام كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء يسمع تسبيح أهل السماء ودعاءهم وأنس إليهم فهابت الملائكة منه حتى شكت إلى الله تعالى في دعائها، وقيل في صلاتها فأخفضه الله تعالى إلى الأرض، فلما فقدما كان يسمع منهم استوحش وقيل: أوّل من بني البيت إبراهيم لما روى وورد في الصحيحين عن بي ذر قال: «قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أولًا؟ قال المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟ قال: بيت المقدس قلت كم بينهما قال أربعون سنة» ثم فسر التبوئة بقوله تعالى: {أن لا تشرك بي شيئًا} فابتدأ بأُسِّ العبادة ورأسها وعطف على النهي قوله تعالى: {وطهر بيتي} أي: عن كل ما لا يليق به من الأوثان والأقذار وطواف عريان به كما كان العرب تفعل {للطائفين} أي: الذين يطوفون بالبيت فإن قيل كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسير للتبوئة؟ أجيب بأنّ التبوئة لما كانت مقصودة من أجل العبادة فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له لا تشرك بي شيئًا وطهر بيتي للطائفتين، وقال ابن عباس للطائفين بالبيت من غير أهله {والقائمين} أي: المقيمين {والركوع السجود} أي: المصلين من الكل وقال غيره القائمين هم المصلون لأنّ المصلي لابد أن يكون في صلاته جامعًا بين القيام والركوع والسجود، قال البيضاويّ: ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أنّ كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت {وأذن في الناس} أي: أعلمهم وناد فيهم {بالحج} وهو قصد البيت على سبيل التكرار للعبادة المخصوصة بالمشاعر المنصوصة، وفي المأمور بذلك قولان أحدهما وعليه أكثر المفسرين أنه إبراهيم عليه السلام، قالوا: لما فرغ من بناء البيت قال الله تعالى له أذن في الناس بالحج. قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان وعليّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس وفي أخرى على المقام قال إبراهيم: كيف أقول قال جبريل قل لبيك اللهمّ لبيك فهو أوّل من لبى وفي رواية أخرى صعد على الصفا فقال: يا أيها الناس إنّ الله كتب عليكم حج هذا البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء والأرض فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول لبيك اللهمّ لبيك، وفي رواية أخرى: إنّ الله يدعوكم إلى حج بيته الحرام ليثيبكم به الجنة ويجيركم من الناس فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وكل من وصل إليه صوته من حجر، أو شجر، أو آنية، أو تراب قال مجاهد فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء فمن أجاب مرّة حج مرّة، ومن أجاب مرّتين أو أكثر فيحج مرّتين أو أكثر بذلك المقدار، وفي رواية فنادى على جبل أبي قبيس يا أيها الناس إنّ ربكم بنى بيتًا وأوجب الحج عليكم إليه فأجيبوا ربكم والتفت بوجهه يمينًا وشمالًا وشرقًا وغربًا فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجل وأرحام الأمّهات لبيك اللهمّ لبيك، وعن ابن عباس قال لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى، القول الثاني أنّ المأمور بذلك هو النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول الحسن واختاره أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأنّ ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أنّ محمد صلى الله عليه وسلم هو المخاطب به فهو أولى لأنّ قوله تعالى: {وإذ بوأنا} تقديره واذكر يا محمد إذ بوّأنا فهو في حكم المذكور، فإذا قال تعالى: وأذن فإليه يرجع الخطاب أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع، روي عن أبي هريرة قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا» وجواب الأمر {يأتوك} أي يأتوا بيتك الذي بنيته لذلك مجيبين لصوتك بإذننا سامعين طائعين مجنبين خاشعين من أقطار الأرض كما يجيبون صوت الداعي من قبلنا إذا دعاهم بعد الموت بمثل ذلك {رجالًا} أي: مشاة على أرجلهم جمع راجل كقائم وقيام {و} ركبانًا {على كل ضامر} أي: بعير مهزول وهو يطلق على الذكر والأنثى.
تنبيه:
على كل ضامر حال معطوف على حال كأنه قال رجلًا وركبانًا وقوله تعالى: {يأتين} صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع {من كل فج} أي: طريق واسع بين جبلين {عميق} أي بعيد روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال كل حسنة بمائة ألف حسنة» وفي هذا دلالة على أنّ المشي أفضل من الركوب وفي ذلك خلاف بين الأئمة محله كتب الفقه.
ولما كان الإنسان ميالًا إلى الفوائد متشوفًا إلى جميل العوائد علل الإتيان بما يرغبه مبيحًا من فضله ما يقصده من أمر المعاش بقوله تعالى: {ليشهدوا} أي: ليحضروا حضورًا تامًّا {منافع لهم} واختلف في تلك المنافع فبعضهم حملها على منافع الدنيا وهي أن يتجروا في أيام الحج وبعضهم حملها على منافع الآخرة وهي العفو والمغفرة وبعضهم حملها على الأمرين جميعًا وهو كما قال الرازي أولى فيأتون لتلك المنافع يتنقلون من مشعر من مشاعر الحج إلى مشعر، ومن مشهد إلى مشهد، مجموعين بالدعوة، خاشعين بالهيبة، خائفين من السطوة، راجين للمغفرة، ثم يتفرّقون إلى منازلهم ومواطنهم ويتوجهون إلى مساكنهم كالسائرين إلى مواقف الحشر يوم البعث والنشر، المتفرقين إلى داري النعيم والجحيم، فيا أيها المصدقون بأنّ خليلنا إبراهيم عليه السلام نادى بالحج فأجابه بقدرتنا كرامة له من أراد الله تعالى حجه على بعد أقطارهم وتناي دارهم ممن كان موجودًا في ذلك الزمان وممن كان في ظهور الآباء والأمّهات الأقربين والأبعدين صدّقوا أنّ الداعي من قبلنا بالنفح في الصور يجيبه كل من كان على ظهرها ممن حفظنا له جسده أو سلطنا عليه الأرض فمزقناه حتى صار ترابًا وما بين ذلك لأنّ الكل علينا يسير، قال الزمخشريّ: وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه كان يفاضل بين العبادات كلها قبل أن يحج فلما حج فضل الحج على العبادات كلها لما شاهد من تلك الخصائص.
ولما كانت المنافع لا تطيب ولا تثمر إلا بالتقوى وكان الحامل على التقوى ذكر الله تعالى قال تعالى: {ويذكروا اسم الله} أي: الجامع لجميع الكمالات بالتكبير وغيره عند الذبح وغيره وقيل كنى بالذكر عن الذبح لأنّ ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيهًا على أنّ المقصود مما يتقرّب به إلى الله تعالى أن يذكر اسمه.
واختلف في الأيام المعلومات في قوله تعالى: {في أيام معلومات} فالذي عليه أكثر المفسرين وهو اختيار الشافعيّ وأبي حنيفة أنه عشر ذي الحجة واحتجوا بأنها معلومة عند الناس بحرصهم على علمّها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة، والمشعر الحرام، ولتلك الذبائح وقت منها وهو يوم النحر وعن ابن عباس أنها أيام التشريق وقيل يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق وقيل يوم النحر إلى آخر أيام التشريق واستدلّ لهذا بقوله تعالى: {على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} وهي الإبل والبقر والغنم من الهدايا والضحايا أي: يذكروا اسم الله تعالى عند نحرها ونحر الضحيا والهدايا يكون في هذه الأيام وتقدّم الكلام على الأيام المعدودات في سورة البقرة عند قوله تعالى: {واذكروا الله في أيام معدودات} [البقرة:] وقوله تعالى: {فكلوا منها} أي: لحومها أمر إباحة، وذلك أنّ الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئًا فأمر الله تعالى بمخالفتهم، واتفق العلماء على أنّ الهدي إذا كان تطوّعًا يجوز للمهتدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوّع لما روى عن جابر بن عبد الله في قصة حجة الوداع «فأتى على ببدن من اليمن وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فنحر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين بدنة ونحر على ما غبر أي ما بقي وأشركه في بدنه ثم أمر من كل بدنة ببضعة أي بقطعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها» أخرجه مسلم واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع مثل دم التمتع والقران والدم الواجب بإفساد الحج وفوته وجزاء الصيد هل يجوز للمهدي أن يأكل شيئًا منه؟ قال الشافعي رضيّ الله عنه لا يأكل منه شيئًا وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر وقال ابن عمر رضي الله عنهما لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك وبه قال أحمد وإسحاق وقال مالك يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر، وعن أصحاب أبي حنيفة أنه يأكل من كل من دم التمتع والقران ولا يأكل من واجب سواهما وقوله تعالى: {وأطعموا البائس} أي: الذي أصابه بؤس أي: شدّة {الفقير} أي: المحتاج أمر إيجاب وقد قيل به في الأوّل {ثم ليقضوا تفثهم} أي: يزيلوا أوساخهم وشعثهم كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال {وليوفوا نذورهم} من الهدايا والضحايا {وليطوّفوا} طواف الإفاضة الذي به تمام التحلل {بالبيت العتيق} أي القديم لأنه أوّل بيت وضع للناس وقال ابن عباس سمي عتيقًا لأنّ الله تعالى أعتقه من تسلط الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى منه فإن قيل: قد تسلط عليه الحجاج فلم يمنع أجيب بأنه ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه ولما قصد التسلط عليه أبرهة فعل به ما فعل، وقيل لأنّ الله تعالى أعتقه من الغرق فإنه رفع في أيام الطوفان، وقال مجاهد لأنه لم يملك قط وقيل بيت كريم أي: العتيق بمعنى الكريم، من قولهم عتاق الخيل والطير، والطواف ينقسم إلى ثلاثة هذا ويدخل وقته بعد الوقوف وهذا لا يجبر تركه بدم لأنه ركن الثاني: طواف الوداع ووقته عند أرادة السفر من مكة وهو واجب يجبر تركه بدم، الثالث: طواف القدوم وهو مستحب للحاج والحلال إذا قدم مكة روت عائشة رضي الله تعالى عنها «أنّ أوّل شيء بدأ به حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف ثم لم تكن عمرة ثم حج» أبو بكر وعمر مثله وقرأ ابن ذكران {وليوفوا} {وليطوفوا} بكسر اللام فيهما والباقون بإسكانها وفتح أبو بكر الواو ومن {وليوفوا} وشدّد الفاء وقوله تعالى: {ذلك} خبر مبتدأ مقدر أي: الأمر أو الشأن ذلك المذكور كما تقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا فقد كان كذا {ومن يعظم} أي بغاية جهده {حرمات الله} ذي الجلال والإكرام كلها وهي ما لا يحلّ انتهاكه من مناسك الحج وغيرها وقيل:
الحرمات هنا مناسك الحج وتعظيمها إقامتها وإتمامها، وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحلّ {فهو} أي: التعظيم الحامل له على امتثال الأمر فيها على وجه واجتناب المنهي عنه كالذبح بذكر اسم غير الله والطواف عريانًا {خير} كائن {له عند ربه} أي: الذي أسدى إليه كل ما هو فيه من النعم في الآخرة ومن انتهكها فهو شر عليه عند ربه ثم إنه تعالى بين أحكام الحج بقوله تعالى: {وأحلت لكم الأنعام} أي: أكلها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم {إلا ما يتلى} أي: على سبيل التحذير مستمرًّا {عليكم} تحريمه في قوله تعالى: {حرّمت عليكم الميتة} [المائدة]: الآية فالاستثناء منقطع ويجوز أن يكون متصلًا والتحريم لما عرض من الموت ونحوه فحافظوا على حدوده وإياكم أن تحرّموا مما أحلّ شيئًاكتحريم عبدة الأوثان البحيرة والسائبة وغير ذلك وأن تحلوا مما حرم الله شيئًا كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغير ذلك.
ولما فهم من ذلك حلّ السوائب وما معها وتحريم المذبوح للأنصاب وكان سبب ذلك كله الأوثان تسبب عنه قوله تعالى: {فاجتنبوا} أي: بغاية الجهد اقتداء بأبيكم إبراهيم عليه السلام الذي تقدّم الإيصاء له بمثل ذلك عند جعل البيت له مباءة {الرجس} أي: القذر الذي من حقه أنّ يجتنب من غير أمر ثم بينه وميزه بقوله تعالى: {من الأوثان} أي: الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس فهو بيان للرجس وتمييز له، كقولك عندي عشرون من الدراهم وسمى الأوثان رجسًا وكذا الخمر والميسر والأزلام على طريق التشبيه يعني أنكم كما تنفرون بطباعكم من الرجس وتجتنبونه فعليكم أن تنفروا عن هذه الأشياء مثل تلك النفرة، ونبه على هذا المعنى بقوله تعالى: {رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه} [المائدة] جعل العلة في اجتنابه أنه رجس والرجس مجتنب وقوله تعالى: {واجتنبوا قول الزور} تعميم بعد تخصيص فإنّ عبادة الأوثان رأس الزور لأنّ المشرك زاعم أنّ الوثن تحق له العبادة كأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور واجتنبوا قول الزور كله لا تقربوا منه شيئًا لتماديه في القبح والسماجة وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان، والزور من الزور والإزورار وهو الانحراف كما أنّ الإفك من أفكه إذا صرفه فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع وقيل: قول الزور قولهم: هذا حلال وهذا حرام. وما أشبه ذلك من افترائهم وقيل: هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك له إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وقيل: هو شهادة الزور لما روى أبو داود والترمذي «أنّه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فلما سلم قام قائمًا مستقبل الناس بوجهه الكريم وقال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله قالها ثلاثًا وتلا هذه الآية» وقوله تعالى: {حنفاء} أي: مسلمين عادلين عن كل دين سوى دينه {غير مشركين به} تأكيد لما قبله وهما حالان من الواو {ومن يشرك} أي: يوقع شيئًا من الشرك {بالله} الذي له العظمة كلها بشيء من الأشياء في وقت من الأوقات {فكأنما خر} أي: سقط {من السماء} لعلوّ ما كان فيه من أوج التوحيد وسفول ما انحط إليه من حضيض الإشراك {فتخطفه الطير} أي: تأخذه بسرعة وهو نازل في الهواء قبل أن يصل إلى الأرض {أو تهوي به الريح} أي: حيث لم يجد في الهواء ما يهلكه {في مكان} من الأرض {سحيق} بعيد فهو لا يرجى خلاصه.